بسم الله الرحمن الرحيم
الجانبَ السّياسيَّ عندَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهذه ورقة عمل قدمها أحد شباب حزب التحرير في إحدى جامعات بلاد المسلمين لمؤتمر لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تناول فيها
الجانب السياسي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
أيها الحضور الكرام:
تميز الإسلام بأنه دين السياسة، وتميز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسول السياسي، ذلك أن الشريعة التي أوحى الله تعالى بها إليه شريعة شاملة جوانب حياة البشر كافة من جميع نواحيها، لأنها عالجت مشاكل الإنسان بوصفه إنساناً، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطبيق هذه الشريعة تطبيقاً عملياً، لا غرو؛ فهو المبلغ عن الله شريعته قولاً وعملا وسكوتاً، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
مفهوم السياسة:
كلمة السياسة مصدر للفعل (ساس) ومضارعه (يسوس)، واستخدم (لسائس) الخيل أي من يرعى شؤونها، فالمعنى اللغوي لكلمة السياسة هو رعاية الشؤون، واستخدم الإسلام هذا اللفظ بمعناه مضيفاً إليه ضوابط الرعاية ومجالها، والأساس الذي تستند عليه، فأصبح المعنى الشرعي لكلمة (السياسة)، رعاية شؤون الأمة داخلياً وخارجياً بحسب أحكام الإسلام، وقد ورد هذا اللفظ بهذا المعنى في حديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (لقد كان من قبلكم تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، إلا أنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول فإن الله سائلهم عما استرعاهم ... أو كما قال صلوات ربي وسلامه عليه.
التجليات السياسية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أولاً: في العهد المكي
1- تميز العهد المكي بمراحل ثلاث مرت بها دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت أولها مرحلة الدعوة السرية، حيث أنشأ فيها صلى الله عليه وسلم كتلة تألفت من الصحابة الكرام، رعى رسول الله صلى الله عليه وسلم شؤونها على خير ما يرعى مسؤول شؤون رعيته، فقد ثقفهم بالعقيدة الجديدة، وكوّن شخصياتهم تكويناً خاصاً أعدهم عن طريقها لخوض غمار المرحلة التالية.
2- المرحلة الثانية كانت المرحلة الجهرية التي تمثلت بالصراع الفكري والكفاح السياسي، حيث اصطدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مجتمع مكة، اصطدم بعقائده يكيل لها الضربات، واصطدم بقادة الكفر في مكة،(تبت يدا أبي لهب وتب..)، (فليدع نادية سندع الزبانية..)، وقال صلى الله عليه وسلم لأمية بن خلف عندما سأله: أيحيي ربك هذه العظام؟ فأجابه بقوله صلى الله عليه وسلم: "نعم، ويدخلك جهنم"، وتعرض للعلاقات الموجودة في مجتمع مكة حيث كانت قائمة على عقيدة الكفر، فانتقد وأد البنات وذمه، ثم تحمل صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام أشد الأذى في سبيل ذلك، وكل ذلك ليجعل عقيدة الإسلام بعقائده ومعالجاته تحل محل الكفر بعقائده ومعالجاته وبقياداته، صلى عليك وسلم يا سيدي يا رسول الله.
3-ثم جاءت المرحلة المكية الثالثة، وهي مرحلة الاتصال بالقبائل، أو مرحلة طلب النصرة، ليوجد للإسلام قوة تحميه وتحمله.
وتوجت هذه المراحل الثلاث بالحدث السياسي الأكبر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ألا إنه حدث الهجرة الذي كان إيذاناً بولادة الدولة الإسلامية الأولى، أول كيان سياسي يقوم على العقيدة الإسلامية يبين للناس نمطاً جديداً من رعاية الشؤون لم تعهده البشرية من قبل.
ثانياً: في العهد المدني
أيها الحضور الكرام
ظهرت التجليات السياسية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعماله السياسية الكثيرة، حيث إنه صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله بدأ بإرساء قواعد أول دولة سياسية قائمة على العقيدة الإسلامية، فبنى المسجد، وجعله مقراً لرئيس الدولة، فيه يعقد مجلس الحكم، ومجلس القضاء، ومجلس الشورى، ومجلس إدارة شؤون الدولة، ومجلس العلم والتعليم، فضلاً عن وظيفته الأساسية التي هي الصلاة والاعتكاف وملتقى المسلمين، يبحثون فيه شؤونهم.
ثم أصدر صلى الله عليه وسلم الصحيفة التي تنظم العلاقات بين المسلمين في المدينة المنورة، وتضمنت نقاطاً كثيرة أهمها:
1 - وإن بطانة يهود كأنفسهم وإنه لا يخرج منهم أحد إلاّ بإذن محمد - صلى الله عليه وسلم -.
2 - وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
3 - وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث واشتجار يخاف فساده فإن مردّه إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
4 - وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
وبهذه الصحيفة نظم الرسول صلى الله عليه وسلم علاقات أهل المدينة بعضهم ببعض، ونظم وضع القبائل المجاورة للمدينة من اليهود، فاشترط عليهم ألا يخرجوا من المدينة إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم، رئيس الدولة، وحرم عليهم انتهاك حرمة المدينة بحرب أو نصرةٍ على حرب، وحرّم عليهم أن يجيروا قريشاً ولا من نصرها، وأي خلاف ينشب فإن الحكم فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفه رئيساً للدولة المدنية. فتركزت العلاقات في الدولة الإسلامية الناشئة على وضع ثابت الأساس، حتى اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بناء المجتمع السياسي، وأمن إلى حدّ ما غدرَ جيرانه اليهود ومحاربتهم، وأخذ يعمل لإزالة الحواجز المادية من طريق الدعوة الإسلامية بالتهيئة للقتال، صلوات ربي وسلامه عليك يا حبيب القلوب، يا خير سياسي عرفته البشرية.
ومن تجليات السياسية النبوية، رعاية شؤون الداخل،كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كانت من خير الأمثلة على حسن رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم لشؤون الأمة، شؤون الدولة الجديدة الفتية، فأرسى دعائمها لتقوم بوظيفتها وهي حمل الإسلام إلى الناس كافة بالدعوة والجهاد.
أيها الحضور الكرام:
انطلق صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا، ويفتعل الأحداث السياسية مع قريش والقبائل المجاورة، فمرة يعترض قوافلهم، وأخرى يعقد صلحاً مع قبيلة، وثالثة يعطي كتاباً لكيان آخر، ومرة يقاتل، وهكذا.. حتى حدث الصدام الكبير مع قريش، غزوة بدر، حيث كانت إعلاناً للدولة الإسلامية الجديدة على مستوى الجزيرة العربية، وأخذت قريش تحسب الحسابات لهذا الكيان السياسي الجديد.
وجاءت غزوة أحد، والتي كانت بغض النظر عن نتيجتها العسكرية، كانت اعترافاً صريحاً من قريش بهذا الكيان السياسي الجديد.
أيها الحضور الكرام:
نصل الآن إلى مرحلة سياسية جديدة، من سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم، ألا وهي مرحلة ما بعد صلح الحديبية:
جاء صلح الحديبية، الذي كان من أكبر المناورات السياسية، حيث نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحييد قريش عن ساحة الصراع المادي ليتفرغ لأمرين:
1- ليتفرغ لباقي الكيانات السياسية في الجزيرة العربية، ليضمها إلى جسم الدولة الإسلامية.
2- ليعلن الدولة الإسلامية دولة كبرى في العالم، تؤثر في الموقف الدولي، بل تزاحم الدول الكبرى آنذاك، دولتي الفرس والروم، حيث تفرغ صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية لمخاطبة الدول العظمى في زمنه، وإرسال الرسائل للملوك والأمراء والكيانات السياسية الأخرى، وذلك ليبين للمسلمين أن وظيفة هذه الدولة الأساسية إنما هي تطبيق الإسلام في الداخل وحمل الإسلام إلى الناس كافة.
ثم كان ما كان بعد ذلك من مواجهات سياسية ومواجهات مادية مسلحة مع الدولة العظمى آنذاك دولة الروم، لتصبح الدولة الإسلامية ثالث الدول العظمى بعد دولتي الروم والفرس.
وفي هذا الجانب، جانب تحويل الدولة الإسلامية إلى دولة عظمى، تجدر الإشارة إلى تشكيله صلى الله عليه وسلم جيشاً كبيراً أراد توجيهه إلى دولة الروم، ذلك الجيش الذي سمي بـ (جيش أسامة) أو (بعث أسامة)، وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وهو يكرر الوصية أنفذوا بعث أسامة، تأكيداً للصراع الدولي الذي يتحتم على دولة الإسلام أن تخوضه مع الدول العظمى، لتحل محلها، وتأخذ منها زمام المبادرة. وفعلاً أتم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ما كانت تمر به الدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من عواصف قوية تمثلت في ارتداد قبائل من العرب عن الإسلام.
ثم جاء فتح مكة، وتلاه عام الوفود الذي كان ضمّاً فعلياً للكيانات السياسية الموجودة في الجزيرة العربية إلى كيان دولة الإسلام، وهذا يعني امتداد دولته صلى الله عليه وسلم، وازدياد قوتها، مما وضعها في مصافّ الدول العظمى في ذلك الزمان قبل أن ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.
أيها الحضور الكرام:
وبناء على ما سبق، تبرز أعمال حبيب القلوب محمد صلى الله عليه وسلم السياسية، ويمكن تصنيفها كما يأتي:
1- تنظيم العلاقات في المجتمع المدني، مجتمع المدينة المنورة الدولة الإسلامية.
2- تنظيم علاقة المسلمين بغيرهم من القبائل الأخرى المجاورة للمدينة المنورة من اليهود.
3- بيانه صلى الله عليه وسلم لقواعد نظام الحكم في الإسلام، وبيانه لأجهزة الدولة الجديدة.
4- رعاية شؤون المسلمين في الداخل بأحكام الإسلام.
5- العلاقات الدولية من معاهدات ومفاوضات، وجهاد لنشر دعوة الإسلام، ومناورات سياسية، والارتقاء بدولة الإسلام من دولة ناشئة فتية، إلى كيان سياسي تعترف به الجزيرة العربية، ويعترف به أكبر كيان سياسي في الجزيرة آنذاك وهو كيان مكة، ثم الارتقاء بهذا الكيان السياسي ليكون في مصاف الدول العظمى، فيزاحم الدولتين العظميين: الروم والفرس ليأخذ منهما بعد ذلك مقعد الصدارة، ومكانة الدولة الأولى في العالم.
أيها الحضور الكرام:
ومن الملاحظ أن سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب القلوب، الذي اجتمعنا اليوم من أجله ومن أجل نصرته، نجد سياسته تميزت بالخصائص التالية:
أ- انبثاق سياسته صلى الله عليه وسلم من العقيدة الإسلامية، حيث ظهر أن أعماله السياسية كافة هي أحكام شرعية، يتقرّب بها إلى الله تعالى.
ب- تميز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوعي السياسي، أي الإحاطة بالواقع السياسي للكيانات السياسية الموجودة في زمنه صلى الله عليه وسلم، ومعرفته صلى الله عليه وسلم بالقبائل وأنسابها، حتى إنه كان يرجع في معرفة القبائل وأنسابها لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان من كبار نسّابي العرب.
ج- رعاية الشؤون كانت هي الميزة التي اتصفت بها سياسته صلى الله عليه وسلم، حيث إن أعماله السياسية عادت نتائجها على الأمة الإسلامية بالخير والازدهار في الداخل والخارج، ولم يتحيز صلى الله عليه وسلم لنفسه أو لقرابته مثلاً، بل إن عائد أعماله كان يصب في مصلحة المسلمين كافة.
د- البعد عما يوصف اليوم بالميكافيللية وبالبراغماتية في السياسة، حيث إن المصلحة المتحققة من أعماله السياسية مصلحة شرعية يقرها الشرع، وليست مصلحة نابعة من الهوى، أو يتحكم فيها مجرد العقل، ومما يدل على أن سياسته صلى الله عليه وسلم شرعية بحتة متابعة الوحي لأعماله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغلّ، ومن يغللْ يأت بما غلّ يوم القيامة)، وقوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، ومن ذلك قوله تعالى: (يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال..)، وبيّن له حكم الأسرى بقوله تعالى: (فإما منّاً بعدُ وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها)، وقال تعالى: (إن فتحنا لك فتحاً مبيناً)، قال ذلك عن صلح الحديبية الذي لم يرضَ عنه كثير من الصحابة الكرام، وكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (إنما أتبع أمر ربي ولن يضيعني).
هـ تميزت سياسته صلى الله عليه وسلم بإظهار الأعمال السياسية وإخفاء الأهداف من ورائها، فاستعان صلى الله عليه وسلم بالكتمان في أكثر أعماله حينما كان يلزم ذلك كما فعل في فتح مكة، واستعان بالإعلان حين لزومه كما فعل في صلح الحديبية، صلوات ربي وسلامه عليه.
أيها الحضور الكرام:
لقد خط رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين ولأمة الإسلام من بعده هذه الخطوط السياسية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية ليسير عليه المسلمون من بعده، وقد سار عليها الصجابة الكرام عليهم رضوان الله، وتابعوهم، وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين، واستمر المسلمون يحملون الإسلام حملاً روحياً وحملاً سياسياً لأن عقيدة الإسلام عقيدة روحية سياسية.
وبعد أيها الحضور الكرام:
فلعل السطور السابقة تعطي حبيب القلوب محمداً صلى الله عليه وسلم بعضاً من حقه في بيان الجانب السياسي في حياته، علماً أنه صلى الله عليه وسلم قضّى حياته يقوم بأعمال سياسية حتى في تبليغ شرع ربه، بناء على المفهوم الشرعي للفظ (السياسة) الذي هو: (رعاية شؤون الأمة في الداخل والخارج بحسب أحكام الإسلام)، فعقائد الإسلام وأفكاره وأحكامه الشرعية تنزّلت عليه صلى الله عليه وسلم لإسعاد البشرية، وحل مشاكل الإنسان بوصفه إنساناً. ومثّل صلى الله عليه وسلم من نفسه وسلوكه وأعماله السياسية قدوة علينا علينا اتباعها، والاحتذاء بها، واتباعه صلى الله عليه وسلم فيها كلها حكم شرعي واجب الاتباع.
إنه المورد الصافي، والمنهل العذب، يرجع إليه السياسيون في كل عصر ليستقوا من سياسته، ويتأسّوْا به صلى الله عليه وسلم. فهو منقذ البشرية من الضلال والهلاك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
10 من ذي القعدة 1431
الموافق 2010/10/18م