هل أُريد بحديث الغدير النص على عليٍّ بالإمارة والخلافة؟
ما حقيقة قصة الغدير؟
أحد القضايا التي يغفلها الكثيرون ولا يميلون للبحث فيها في موضوع الإمامة بالنص هو دراسة خلفية حادثة الغدير، أي الأمور التي حدثت في السنة العاشرة للهجرة
وكانت الخلفية الأساسية التي أدت لواقعة الغدير، في حين أن الاطلاع على هذه الخلفية ضروري جدَّاً للفهم الصحيح لخطبة غدير خم. وخلاصة قصة الغدير،
طبقاً لما روته كتب التاريخ الإسلامي مثل سيرة ابن هشام (ج 4/ص 274) التي هي أقدم كتب السيرة المتوفرة، وتواريخ وتفاسير الفريقين الشيعة والسنة، كتفسير جمال الدين أبي الفتوح الرازي (فسير "رَوح الجَنان ورُوح الجِنان" لجمال الدين أبي الفتوح الرازي، تصحيح علي أكبر غفاري، ج4 / ص 275 إلى 277.)
وتفسير ابن كثير وتاريخ البداية والنهاية لابن كثير أيضاً، وكتاب مجالس المؤمنين (ج1/ص43) للقاضي نور الله الشوشتري(السيد نور الله بن شريف الدين الحسيني المرعشي التستري أو الشوشتري الهندي، ، متكلم فقيه إمامي، وغيرها من كتب الرواية والحديث لدى الفريقين
(،في ذلك أحاديث مشتهرة روتها - إضافة لكتب السيرة - كتب الحديث من السنن والمسانيد، انظر مثلا: سنن الترمذي: كتاب المناقب/باب مناقب علي بن أبي طالب، والسنن الكبرى للنسائي / باب مناقب علي، ومقدمة سنن ابن ماجة / باب مناقب علي بن أبي طالب، ومسند أحمد/ مسند علي بن أبي طالب.. الخ) ما يلي:
في السنة العاشرة للهجـرة توجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى مكة المكرمة ليؤدي مناسك الحج الإسلامي ويعلّمها الناس ولتكون فرصة يعطي فيها المسلمين الذين انضووا تحت رسالته آخر وصاياه، وأرسل (صلّى الله عليه وآله) رسائل إلى رؤساء القبائل العربية وعماله
في نواحي الجزيرة العربية يدعوهم فيها إلى المجيء لمكة في أيام الحج ليؤدوا المناسك معه، وكان من جملة الرسائل كتابٌ بعث به إلى علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان في ذلك الحين في اليمن، حيث كان (صلّى الله عليه وآله) بعثه لجمع أموال الزكاة فيها، دعاه فيه كذلك إلى الحضور لمكة أيام الحج، فوصل الكتاب لعليٍّ وهو في اليمن أو في طريقه من اليمن إلى المدينة حاملاً أموال الزكاة، فرأى عليه السلام أنه لو أراد أن يأتي مكة بما معه من أموال بيت المال - التي كان أغلبها في ذلك الوقت من المواشي كالإبل والبقر والغنم - لما استطاع الوصول إلى الحج في الوقت المطلوب،
لذا اضطر أن يوكل أمر حمل أموال الزكاة إلى الذين كانوا برفقته، كأبي بريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما، وينطلق بمفرده مسرعاً إلى مكة، فوصل مكة ولقي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم السابع أو الثامن من ذي الحجة، وبعد أداء مناسك الحج،
قـفل راجعاً إلى طريق اليمن ليكمل مهمته في حمل أموال بيت المال، فلقي القافلة وهي في طريقها إلى المدينة، ووجد بريدة الأسلمي وخالد بن الوليد تصرّفا في بعض أموالها،
سيما بعض الحلل اليمنية، فغضب، كما هي عادته تجاه أي تصرف شخصي ليس في محله في بيت مال المسلمين، فنهر بريدة وخالداً ووبخهم على صنيعهم، وفي بعض التواريخ أنه عليه السلام سبهم وضربهم، فكبر ذلك عليهم، لا سيما أنهما كانا من الوجهاء والأكابر في قومهما،
فحملا في قلبهما بغضاً لِعَليٍّ واستعدّا للانتقام لأنفسهما فأرسلا شخصاً إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، الذي كان في طريق عودته من مكة إلى المدينة، وفي بعض التواريخ أنهم ذهبوا إليه بأنفسهم، واشتكوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عنف وشدَّة علي معهم، ،
فلما رأوا علامات الغضب على وجهه (صلّى الله عليه وآله) وظنوا أنه غضب لأجلهم من علي، واصلوا الشكوى بلهجة أكثر حدة، عند ذلك نهاهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومنعهم من هذا الكلام وذكر طرفاً من فضائله، وكان مما قال: "ارفعوا ألسنتكم عن علي فإنه خشن في ذات الله غير مداهن في دينه"، أو: "أيها الناس لا تشكو علياً فوالله إنه لأخشن في ذات الله، أو في سبيل الله، من أن يُشكَى" انظر سيرة ابن هشام ج4/ ص 603،( بتحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، طبع دار ابن كثير. وانظر المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري : ج3 / 145، ح 4656/252،
وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه. )
أو "ما لكم ولعلِيّ! علِيٌّ منّي وأنا منه وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي،( أخرج نحوه الترمذي في سننه: 50- كتاب المناقب/ 20- باب مناقب علي بن أبي طالب، ح 3712، (5/632)
وقال: قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده: 4 / ص 437 – 438. وجملة «وأنت ولي كل مؤمن بعدي) أخرجها أيضاً أبو داوود الطيالسي في مسنده: ح 2752، والنسائي في الخصائص العلوية ) أو "من كنت مولاه فعلِيٌّ مولاه"([1]).
لكن خالداً وبريدةَ والآخرين كانوا قد أساؤا القول من قبل بحق عليٍّ أمام الصحابة الآخرين بما فيه الكفاية، ولعلهم استمروا في ذلك حتى بعد نهي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم، مما شـوّه صورة علي في ذهن عديد من الصحابة، لا سيما أن عدداً منهم لم يكن قد تعرّف على عليٍّ بعد،
فلما رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك، شعر أنه لا بد من الدفاع عن شخصية حضرة عليّ البارزة المتميزة ويعرّف المسلمين بعلو مقامه وذلك قبل أن يتفرق المسلمون هنا وهناك عائدين إلى بلدانهم ( وإلا لو كان القصد من التوقف وخطبة الغدير هو إعلان فرض الإمارة السياسية المباشرة لعلي (ع) فهناك سؤال هام يطرح نفسه تلقائيا وهو أنه لماذا لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في خطبة حجة الوداع؟؟
وسبب السؤال هو
أولا: أن خطبة حجة الوداع كان يحضرها آلاف المسلمين من مختلف أنحاء الجزيرة العربية وإعلان مثل هذا الأمر السياسي الخطير أولى أن يتم في مثل ذلك المقام،
وثانيا: لأنه (ص) كان بذلك يطلع جميع أهل مكة على إمارة علي ويقيم عليهم الحجة بذلك؟! وكذلك يُطرح الإشكال والتساؤل بأنه لماذا على الأقل لم يخطب هذه الخطبة في المدينة ليطلع عليها ويسمعها جميع أهل المدينة - الذين لعبوا الدور الأول والأساسي في تولية أبي بكر رضي الله عنه ).
ثم بالإضافة لكون الدفاع عن شخصية مؤمن مسلم ممتاز أمراً لازماً وواجباً شرعاً، و قام (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - أثناء توقفه لصلاة الظهر بجوار غديرٍ يُدْعى خُـمَّاً - بإلقاء كلمة عقب الصلاة أشار فيها لدنو رحيله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولمقام أهل بيته ثم عرَّف المسلمين بذلك الجناب وبيّن وجوبَ محبته على كلّ مسلم، لكن ما قاله وبيّنه لم يكن معناه أبداً فرضَ إمارته والنصّ على خلافته بأمر الله تعالى وحكمه،
هل أُريد بحديث الغدير النص على عليٍّ بالإمارة والخلافة؟
للدلائل التالية نعتقد أن هذا الحديث ليس نصّاً على عليٍّ بالإمارة:
هل أهمية أصل "الإمامة" أقل من قصة "زيد بن حارثة" رضي الله عنه الذي ذُكِر اسمه صريحاً في القرآن؟! هل يمكن قبول هذا التفاوت إلى هذا الحد في طريقة بيان أصول الدين؟!
1- أوّل دليل على ذلك أن أحداً من الذين شهدوا ذلك الاجتماع وسمعوا تلك الخطبة لم يفهم منها هذا المعنى، ولهذا لم يأت أحدٌ على حديث الغدير بذكر في سقيفة بني ساعدة ولا حتّى أُشير إليه مجرّد إشارة، ولا استند إليه أحدٌ بعد ذلك في تمام عهد الخلفاء الراشدين، إلى أن جاء المفرِّقون بعد عهدٍ طويلٍ فاستندوا إليه وقالوا ما قالوا.
2- لم يأت أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام نفسه ولا أنصاره من بني هاشم وغيرهم في السقيفة وبعد نصب أبي بكر رضي الله عنه للخلافة، على حديث الغدير بذكر ولا استندوا عليه لإثبات النص على علي، وحتى الاثني عشر نفراً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين -
طبقاً لادعاء بعض الروايات - احتجوا على أبي بكر رضي الله عنه مؤيدين لحق علي في الخلافة، لم يستندوا إلى هذا الحديث لإثبات أولويته عليه السلام بأمر الخلافة، وعندما جاء في كلمات بعضهم ذكر لهذا الحديث، كان على سبيل ذكر الفضائل والمناقب لا على أساس أنه نص إلهي قاطع من جانب الله، هذا بغض النظر عن أن حديث احتجاج النفر الاثني عشر يحتاج لتمحيص أكثر للتأكد من صحته أو سقمه لأن احتمال وضعه ودسه قوي جدَّاً بل يقيني.
3- قوة إيمان أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومدح القـرآن لهم يتناقض تماماً مع ادعاء كتمانهم للإمامة وردهم للخلافة المقررة من قبل الله عز وجل، خاصة لدى الكثير منهم أي مانع أو اعتراض على زعامته حيث صرّحوا أنهم لو سمعوا كلام علي قبل تمام بيعتهم لأبي بكر لما تخلفوا عن بيعته، مما يؤكد عدم وجود أي دافع لهم لكتمان خطبة الغدير أو للإعراض عن العمل بها لو كانوا قد فهموا منها حقَّاً النصب الإلـهي لعلي خليفةً وإماماً.
4- كون قصة الغدير - كما تبين - أوجبتها قضية تصرف خالد وبريدة بأموال الزكاة بلا وجه حق والتي أدت لغضب علي عليه السلام وتعنيفه لهم( يروي العلامة الأميني في كتابه الغدير (ج1/ص 384، الطبعة الثالثة) : «عن بريدة قال: غزوت مع علي اليمن، فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عليّاً فتنقَّصته، فرأيت وجه رسول الله يتغير، فقال: يا بريدة! ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قلت: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه».)مما أثار سخطهم عليه وشكايتهم إياه إلى رسول الله، يبين أن مراده (صلى الله عليه وآله وسلم) من خطبته تلك أن يؤكد على المسلمين محبة ونصرة وتقدير علي عليه السلام.
5- الجملة المهمة والحاسمة في حديث غدير خم والتي يتفق جميع المسلمين على صحة صدورها عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): [من كنت مولاه فهذا علي مولاه]. والانتباه الدقيق لمعنى هذه الجملة من شأنه أن يرفع كثير من الإشكالات. فهذه الجملة لا تفيد بالضرورة معنى الخلافة والإمامة لعلي بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للدلائل التالية:
أ - ذكر العلامة عبد الحسين الأميني في كتابه "الغدير" - نقلا عن علماء اللغة - لكلمة "المولى" سبعة وعشرين معنى وهي:
1- الربّ 2- العمّ 3- ابن العمّ 4- الابن 5- ابن الأخت
6- المعتِـق 7- المعتَق 8- العبد 9- المالك 10- التابع
11- المنعَم عليه 12- الشريك 13- الحليف 14- الصاحب 15- الجار
16- النـزيل 17- الصهر 18- القريب 19- المنعِم 20- الفقيد
21- الولي 22- الأولى بالشيء 23- السيد غير المالك والمعـتِق 24- المحب
25- الناصر 26- المتصرِّف في الأمر 27- المتولي في الأمر.
و رغم كل ما بذله العلامة الأميني من جهد، لم يُوَفَّق في استخراج معنى: الخليفة أو الحاكم أو الأمير... لكلمة "المولى"، واعترف أن لفظ "المولى" من الألفاظ المشتركة وأنه أكثر ما يقصد به هو "الأولى بالشيء" (أي المعنى الثاني والعشرون).
وعليه فلا يمكن فهم المعنى المراد من "المولى" بدون قرينة. فإذا انتبهنا لقرينة السبب الذي أوجب إلقاء هذه الكلمة، وإلى القرينة اللفظية المتجلية في تتمة الحديث: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره...» لم يعد من الصعب أن نعرف أن المعنى المراد من "المولى" هنا هو شيء يجمعه المعاني: الصاحب (الصديق) المحب الناصر (المعاني: 14 و24 و25)،
لأن معنى التتمة هو: اللهم صادق وأحب ووالي كل من يصادق ويحب ويوالي علياً وعاد كل من يبغض ويعادي علياً. (انظر لسان العرب لابن منظور:ج 15 / ص 409
حيث يقول: "والى فلان فلانا: إذا أحبَّ" ويقول قبل ذلك:"وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم ) اللهم وال من والاه: أي أحب من أحبه".)
ب - كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد من الناس محبة علي، حيث أن الباعث لكلمته تلك كان موقف خالد وأبي بريدة وبعض الصحابة من علي كما بينّا.
ج - لا يُفْهَم أبداً من كلمة المولى معنى الخليفة والإمام ولم تأت هذه الكلمة في لغة العرب بهذا المعنى.
6 - في جملة "من كنت مولاه فعلي مولاه" نقطة ذات دلالة مهمة جدَّاً، كثيراً ما حالت غوغاء الجدال والعصبية المذهبية من التنبه إليها رغم وضوحها الشديد، وهي أن كلمة "مولاه" أيا كان المعنى المراد منها، فإن معنى الجملة لن يكون إلا أنه: كل من أنا الآن مولاه فإن عليّاً الآن أيضاً مولاه، وبعبارة أخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلمة "فعلي مولاه" يريد تأكيد الثبوت المتزامن لعلي لنفس الأمر الذي هو ثابت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الآن. فلو فرضنا جدلا أن المقصود من كلمة "مولاه": حاكمه وإمامه (رغم عدم مساعدة اللغة على ذلك)، للزم أن يقيّدها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقيد: [بعدي]، لأنَّ علياً لا يمكنه أبداً أن يكون إمام المسلمين وحاكمهم مع وجود الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)!، مع أن مثل هذا القيد لا يوجد في أيٍّ من روايات الحديث.
7- طبقاً للروايات والأحاديث الضعيفة الواهية السند الكثيرة للقائلين بالنص، فإن خلافة وولاية علي عليه السلام أهم غرض ومراد لرب العالمين! إذ يدَّعون أن جميع رسل الله تعالى وأنبيائه الكرام من لدن آدم إلى النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بينوا لأقوامهم مسألة إمامة علي وولايته، كما بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك الأمر أكثر من ألف مرة منذ بداية بعثته وإلى رحلته (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكّر به في كل مناسبة، في مجالس فردية أو جماعية، كما نزلت أكثر آيات القرآن في هذا الأمر، رغم كل ذلك لم يول أحد هذا الأمر عناية بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكأن الله تعالى - والعياذ بالله - عجز عن تحقيق إرادته، مع أنه القائل: ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ﴾ [المجادلة:21]. فكيف تأتَّى أن يُهْجَرَ مثل ذلك الأمر ويُنْسَى نهائيا على ذلك النحو؟؟ ألا يدل ذلك على أنه لم يكن على الصورة التي ذكروها؟
8 - لو أن خلافة علي وولايته كانت حقاً غاية إلهية عظيمة من وراء خلق الكون، وكان الله ورسوله يريدان ذلك كما تشير إليه كل تلك الأحاديث الواهية والروايات الضعيفة السند، فلماذا لم يستطع الله(!) - تعالى الله عن ذلك - حتى بيان ذلك المطلب بشكل قاطع وصريح في كتابه الكريم وبواسطة نبيه الكريم أو أي أحد آخر من عباده لتتحقق إرادته وينتصر هدفه ولا يضل الناس ذلك الضلال المبين؟، هذا إن كان عدم توليته ضلالاً مبيناً حقاً، أوليس هو تعالى القائل: ﴿ والله غالبٌ على أمره ﴾ والقائل: ﴿ ألا إن حزب الله هم الغالبون ﴾؟ فكيف نفسر هذا الفشل في تحقيق ذلك المراد الخطير؟ اللهم إلا أن نعترف بأنه لم يكن هناك مثل هذا الهدف والقصد وأن تلك الادعاءات العريضة ادعاءات لا أساس لها.
9 - والأهم من ذلك هو تلك الطريقة العجيبة التي ليس لها سابقة والتي لا يمكن أبداً تبريرها التي يدعون أن الشارع تعالى بين بها أصل "الإمامة المنصوص عليها"، رغم أهميته العظيمة. وهذه قضية جديرة بأن تفتح الطريق أمام المنصفين والمتجردين لطلب الحقلاكتشاف حقيقة القضية.
فإن في القرآن الكريم مئات الآيات البينة المحكمة التي تقرر أصل "التوحيد" وكذلك عشرات بل مئات الآيات التي تتكلم عن "اليوم الآخر"، وكذلك ليست قليلة الآيات الواضحة التي تقرر أصل "النبوة العامة" وتبين وتستدل على أصل "نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الخاصة"،
وهكذا حول بقية أصول الدين وأركان الإيمان، بل لقد بين القرآن أيضاً كثيراً من الفروع (حتى الجزئية الصغيرة منها كلزوم رد التحية بأحسن منها والتوسع في المجالس.. إلخ)، وقد بين القرآن كل تلك الأصول بعبارات واضحة جلية محكمة لا مجال للبس أو الاحتمال أو الغموض فيها، يفهم منها المراد مباشرة - بنحو الإجمال على أقل تقدير - بدون الحاجة للاعتماد على الحديث. ولكن لماذا ترك القرآن هذه الطريقة في بيانه أصل "الإمامة" الخطير الذي هو مناط السعادة وحفظ الدين كما يقولون؟؟!
وأما الآيات التي يذكرونها على أنها تنص على موضوع الإمامة فهي آيات يقتضي قبول ارتباطها بموضوع الإمامة أن نغمض النظر عما قبلها وما بعدها من آيات أي عن سياقها، بل أحياناً يقتضي أن لا نكمل الآية إلى آخرها أي أن نقصّ العبارة من الآيات قصّاً!!
علاوة على الإشكال الأكبر وهو أنها آيات لا تفيد المدعى إلا بمساعدة الحديث، وبدونه لا تدل على المطلوب أبداً؟!! حقّاً إنه لعجيب جدَّاً هذا الاستثناء في طريقة الشارع المقدّس في بيانه لأصول الدين، حيث بدلاً من الصراحة
والوضوح المعهودين دائماً منه، يختار هنا - في هدايته الأمة لهذا الأصل العظيم - الإبهام والغموض. وحتى عندما نأتي للحديث الذي يدعون أنه نص على الإمامة نجده غير قاطع في المراد، ونجده يستخدم كلمة "مولى" التي يعترف المؤيدون للإمامة بالنص، أن لها على الأقل سبعة وعشرون معنى في اللغة العربية!!!
ونجد سياق الحديث وملابساته وقرائنه تدل على أن المراد بالمولى أمر غير الإمامة والإمارة. هذا في حين أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان شديد الحرص على هداية قومه ( إشارة إلى ما جاء في سورة
الكهف/ آية 6: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} ونحوها في سورة الشعراء/ آية 3. وكذلك قوله تعالى: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل} النحل/37، وقوله عز من قائل: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} التوبة/ 128.)
وكان "أفصح من نطق بالضاد"، فلا شك أنه لو أراد هداية أمته وإتمام الحجة عليها ببيان أصل أساسي وخطير من أصول الدين لبينه بعبارات واضحة جلية لا لبس فيها، لا بعبارات مشتبهة مشتركة يعسر فهم المراد منها!
(.هذا الغموض كان لدرجة أنه انعكس حتى في روايات المعتقدين بالإمامة المنصوصة من الله لعلي هم يعترفون بهذا المغموض!!
فمن جملة ذلك ما رواه الطبرسي في "الاحتجاج" أن الأنصار لم يفهموا مراد الرسول من خطبة الغدير!! واضطروا لأجل ذلك أن يرسلوا شخصا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله عن مقصوده من ذلك الحديث، والنبي صلى الله عليه وسلم - طبق هذه الرواية - حتى في توضيحه لحديثه لم يستخدم أيضاً لفظة: "ولي الأمر"؟ )
هل أهمية أصل "الإمامة" أقل من قصة "زيد بن حارثة" رضي الله عنه الذي ذُكِر اسمه صريحاً في القرآن؟! هل يمكن قبول هذا التفاوت إلى هذا الحد في طريقة بيان أصول الدين؟!
هل فكَّر القائلون بالإمامة المنصوصة من الله تعالى بهذه القضية أنه لماذا لا يوجد في القرآن الكريم أي أثرٍ لأصل هذه الإمامة رغم أنها عندهم أعلى من "النبوة والرسالة"؟( يعتقد الإمامية أن مقام " الإمامة" أعلى من مقام "النبوة والرسالة" أما أنهم كيف إذن لم يعتبروا عليّاً (ع) أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يجمعون على علوّ وأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فسببه أنهم يقولون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حائزاً أيضاً على مقام الإمامة علاوة على مقام النبوة والرسالة). هل يمكن أن نتصور أن قائل: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام:38] و﴿ ..وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل:89] يغفل ذكر موضوع الامامه على ذلك الجانب من الخطورة والأهمية يا روافض ؟؟!
هل أهمية قصة أصحاب الكهف الذي لم يغفل الله تعالى حتى ذكر كلبهم أكثر من أهمية موضوع الإمامة؟؟
هل يترك القرآن الكريم - الذي أنزله الله تعالى لهداية الناس إلى يوم القيامة - البيان القاطع الشافي لموضوع وقع فيه الاختلاف بين الأمة لقرون بل أدى أحياناً لحروب ومنازعات بينها في حين يذكر بالتفصيل قصص السابقين مثل ذي القرنين ولقمان وهارون و...؟
هل يمتنع الله تعالى الذي لم يمتنع عن ذكر البعوضة في القرآن أن يذكر موضوع الإمامة؟؟ هل هكذا كانت تكون طريقة هداية الناس؟
إن كل من له معرفة وأنس بالقرآن الكريم، لن يرتاب أبداً في أن هذا النحو المدعى من موقف القرآن وبيانه عن الإمامة لا يتناسب مع طريقة القرآن الكريم، في بيان أصول الدين، من قريب ولا بعيد.
([1]) أخرجه الترمذي في سننه: 50- كتاب المناقب / 20- باب مناقب علي رضي الله عنه، ح 3713 (5/633) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي عَبْدِ الله عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم نَحْوَهُ وَأَبُو سَرِيحَةَ هُو حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ الْغِفَارِيُّ صَاحِبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من طرق متعددة ومختلفة وعن عدد كثير من الصحابة، مثلا في:ج 1/ص 88، ورقم 670 (ط.شاكر) وعلق عليه القاضي محمد شاكر (محقق مسند أحمد) بقوله: إسناده صحيح. وكذلك في المسند في: ج1/ص 119 وهو برقم 951 (ط.شاكر)، وفي ج 1/ص 281.
قلت: وقد ذكر الأئمة الحفاظ، الذين أفردوا كتباً خاصة للأحاديث المتواترة، حديثَ: "من كنت مولاه فعلي مولاه" في الأحاديث المتواترة، منهم الإمام السيوطي في كتابه: "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة"، والإمام المناوي في "التيسير بشرح الجامع الصغير"، وشارح المواهب اللدنية، والفقيه المحدث محمد بن جعفر الحسني الإدريسي الشهير بالكتاني في كتابه:"نظم المتناثر من الحديث المتواتر". (ت).